كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم أثبت القدر بقوله: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فأثبت الحجة الشرعية وبين المشيئة القدرية، وكلاهما حق، وقال في النحل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]. فبيَّن سبحانه وتعالى أن هذا الكلام تكذيب للرسل فيما جاءوهم به، ليس حجة لهم. فلو كان حجة لاحتج به على تكذيب كل صدق وفعل كل ظلم. ففي فطرة بني آدم أنه ليس حجة صحيحة. بل من احتج به احتج لعدم العلم وإتباع الظن. كفعل الذين كذبوا الرسل بهذه المدافعة. بل الحجة البالغة لله بإرسال الرسل وإنزال الكتب، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» فبين أنه سبحانه يحب المدح وأن يعذر ويبغض الفواحش، فيحب أن يمدح بالعدل والإحسان، وألا يوصف بالظلم، ومن المعلوم أنه من قدم إلى أتباعه بأن افعلوا كذا ولا تفعلوا، وبيَّن لهم وأزاح علتهم، ثم تعدوا حدوده وأفسدوا أمورهم؛ كان له أن يعذبهم وينتقم منهم. فإذا قالوا: أليس الله قدر علينا هذا؟ لو شاء الله ما فعلنا هذا. قيل لهم: أنتم لا حجة لكم ولا عندكم ما تعتذرون به، وتبيَّن أن ما فعلتموه كان حسنًا، أو كنتم معذورين فيه. فهذا الكلام غير مقبول منكم، وقد قامت الحجة عليكم بما تقدم من البيان والإعذار، ولو أن ولي أمر أعطى قومًا مالًا ليوصلوه إلى بلد، فسافروا به وتركوه في البرية ليس عنده أحد وباتوا في مكان بعيد منه، وكان ولي الأمر قد أرسل جندًا يغزون بعض الأعداء، فاجتازوا تلك الطريق، فرأوا ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا؛ لكان يحسن منه أن يعاقب الأولين لتفريطهم وتضييعهم حفظ ما أمرهم به، ولو قالوا له: أنت لم تعلمنا أنك تبعث بعدنا جندًا حتى يحترز المال منهم! قال: هذا لا يجب علي، ولو فعلته لكان زيادة إعانة لكم. لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك كما تحفظون الودائع والأمانات، وكانت حجته عليهم قائمة ولم يكن يدعى فيهم ظالمًا، وإن كان لم يُعنهم بالإعلام بذلك الجند، لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين، والله سبحانه وتعالى، وله المثل الأعلى، حكَمٌ عدل في كل ما جعله، ولا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته. فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم؛ كان ذلك من إحسانه إليهم وتعريفهم ما ينفعهم، وإذا خلق أمورًا أخرى، فإذا فرَّطوا واعتدوا بسبب خلقه الأمور الأخرى، كان عادلًا حكمًا في خلق هذا وخلق هذا، والأمر بهذا والأمر بهذا، وإن كان لم يمدَ الأولين بزيادة يحترسون بها من التفريط والعدوان، لاسيما مع علمه بأن تلك الزيادة، لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح، فإن الضدين لا يجتمعان، والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل؛ لدعم إتباع الحق الذي بينه العلم. فإن الإنسان حيٌّ حساس متحرك بالإرادة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء الحارث وهمام» فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: المتحرك الهمّ، والهمّ مبدأ الإرادة والقصد. فكل إنسان حارث هَمَّام، وهو المتحرك بالإرادة، وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور. فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد، فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور وما هو من جنسه. كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور. فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب، والحيِّ مفطور على حب ما ينفعهُ ويلائمه، وبغض ما يكرهه ويضره. فإذا تصوّر الشيء الملائم النافع، أراده وأحبه، وإن تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه. لكن ذلك التصوُّر قد يكون علمًا وقد يكون ظنًا وخرصًا. فإذا كان عالمًا بأن مراده هو النافع، وهو المصلحة وهو الذي يلائمه؛ كان على الهدى والحق، وإذا لم يكن معه علم بذلك، كان متبعًا للظن وما تهوى نفسه. فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة، أخذ يحتج بالقدر، حجة لدَدٍ وتفريج، لا حجة اعتماد على الحق والعلم. فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر، إلا لعدم العلم بما هو عليه الحق، وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقرًا بأن ما هو عليه ليس معه به علم، وإنما تكلم بغير علم، ومن تكلم بغير علم كان مبطلًا في كلامه، ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة. فإما أن يكون جاهلًا، فعليه أن يتبع العلم، وإما أن يكون قد عرف الحق واتبع هواه، فعليه أن يتبع الحق ويدع هواه. فتبين أن المحتج بالقدر متبع لهواه بغير علم: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه} [القصص: 50]. انتهى، وله تتمة سابغة الذيل لا بأس بالوقوف عليها.
وقال القاشاني في هذه الآية: إنما قالوا ذلك عنادًا وتعنتًا عن فرط بالجهل وإلزامًا للموحدين بناء على مذهبهم. إذ لو قالوا ذلك عن علم ويقين لكانوا موحدين لا مشركين بنسبة الإرادة والتأثير إلى الغير؛ لأن من علم أنه لا يمكن وقوع شيء بغير مشيئة من الله، علم أنه لو شاء كل من في العالم شيئًا، لم يشأ الله ذلك؛ لم يمكن وقوعه. فاعترف بنفي القدرة والإرادة عما عدا الله تعالى، فلم يبق مشركًا، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107]، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل: 35]، أي: في تكذيب الرسل بالعناد. انتهى.
وقال الإمام مفتي مصر في تفسير سورة العصر، من هذا البحث ما مثاله: فالعقل والشرع والحس والوجدان متضافرة على أن فعل العبد فعله، وكون جميع الأشياء راجعة إلى الله تعالى ووجود الممكنات، إنما هو نسبتها إليه، ولا يتصور اعتبارها موجودة إلا إذا اعتبرت مستندة إليه، مما قام عليه الدليل بل كاد يصل إلى البداهة كذلك، ومثل هذا يقال في عظم قدرة الله تعالى، وإنه إن شاء سلبنا من القدرة والاختيار ما وهبنا. فهو أمر نشاهده كل يوم، نُدبِّر شيئًا، ثم يأتي من الموانع من تحقيقه ما لم يكن في الحسبان، ونتناول عملًا ثم تنقطع قدرتنا عن تتميمه. كل ذلك لا نزاع فيه. شمول علم الله لما كان ولما يكون قام عليه الدليل، ولا شبهة فيه عند الملّييّن، فوجب على المسلم أن يعتقد بأن الله خالق كل شيء على النحو الذي يعلمه، وأن يقرِّر بنسبة عمله إليه كما هو بديهي عنده، ويعلم بما أمره به ويجتنب ما نهاه عنه باستعمال ذلك الاختيار الذي يجده من نفسه، وليس عليه بعد ذلك أن يرفع بصره إلى ما وراءه. فقد نعى الله على المشركين قولهم: {لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، ووردت الأحاديث متواترة المعنى في النهي عن الخوض في القدر وسره. فلو صبر العبد حق الصبر؛ لوقف عند ما حدَّ الله له، ولم ينزع بنفسه إلى تعدي حدود الله التي ضربها لعباده، ولست أحب التكلم في هذه المسألة بأكثر من هذا، وإلا خرجت من الصابرين، وخضت في القدر مع الخائضين، ومن ثار به الهوس فتوهم أن علينا أن نعتقد أن العبد لا فعل له، فقد خالف كتاب الله وعصى رسول الله، وقد أقول {واعتمادي على الله فيما أقول}: إن من يقول ذلك، يخرج عن دين الله، ويعطل شرع الله، فليحذر مؤمن بالله أن يقول ذلك. انتهى.
وقال في موضع آخر: الاحتجاج على ترك العمل بالقدر من عقائد الملحدين، وقد جاء الكتاب الكريم بتشنيع اعتقادهم والنعي عليهم فيه، وقد حكى لنا ما كانوا يقولون من نحو: {لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، فلا يسوغ لأحد منا، وهو يدعي أنه مؤمن بالقرآن؛ أن يحتج بما كان يحتج به المشركون. انتهى، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [37- 38].
{إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} أي: من يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره: {وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} أي: ينصرونهم في الهداية، أو يدفعون العذاب عنهم. ثم بيَّن تعالى نوعًا آخر من أباطيلهم، وهو إنكارهم البعث بقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: جاهدين فيها فـ: {جَهْدَ} مصدر في موقع الحال: {لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: أنه يبعثهم، فيبتّون القول بعدمه! وإنه وعدًا عليه حقٌّ، فيكذبونه؛ وذلك لجهلهم بشؤون الله عز شأنه من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال، وبما يجوز عليه وما لا يجوز، وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه، وعلى أن البعث مما تقتضيه الحكمة. أفاده أبو السعود.
ثم ذكر حكمته تعالى في المعاد، وحشر الأجساد يوم التناد، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [39- 40].
{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وهو الحق، وأنهم كانوا على الضلالة قبله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} أي: في أباطيلهم. لاسيما في إيمانهم بعدم البعث، ولذا تقول لهم الزبانية يوم القيامة: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور: 14]. ثم بيَّن عظيم قدرته، وأنه لا يعجزه شيء ما، بقوله سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي: فيوجد على ما شاء تكوينه، كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، وقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28].
قال الزمخشري: {قولنا} مبتدأ، و{أن نقول} خبره، و{كن فيكون} من {كان} التامة التي بمعنى الحدوث والوجود. أي: إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له: أحدث، فهو يحدث عقيب ذلك، لا يتوقف، وهذا مثل؛ لأن مرادًا لا يمتنع عليه، وأن وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل، ولا قولَ ثَمَّ، والمعنى: إن إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة. فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو في شق المقدورات؟. انتهى.
قال الشهاب: فسقط ما قيل: إنَّ {كن} إن كان خطابًا مع المعدوم فهو محال، وإن كان مع الموجود كان إيجادًا للموجود، وفي الآية كلام لطيف مضى في سورة البقرة. فارجع إليه.
ثم أخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين الذين فارقوا الدار والأهل والخلان؛ رجاء ثوابه وابتغاء مرضاته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [41].
{وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ} أي: مخلصين لوجهه، أو في حقه، وهم إما مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم بمكة، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبش بأمره صلى الله عليه وسلم، وذلك مخافة الفتنة وفرارًا إليه تعالى بدينهم، وكانوا ثلاثة وثمانين رجلًا سوى صغار أبنائهم، وهي أول هجرة في الإسلام، ويؤيده كون السورة مكية.
أو هم مهاجرة المدينة، أخبر به قبل وقوعه أو بعده، إلا أنها ألحقت بالمكية، وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي: أوذوا، وأريد فتنتهم عن الدين: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} يعني بالغلبة على من ظلمهم، وإيراثهم أرضهم وديارهم: {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يعني مضطهديهم وظالميهم، وقد روي أن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه، يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل. ثم وصفهم تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [42- 44].
{الَّذِينَ صَبَرُواْ} أي: على ما أوذوا في سبيل الله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: فلا يخشون أحدًا غيره، والوصفان المذكوران: الصبر والتوكل، من أمهات الصفات التي يجب على الداعي إلى الحق، والمدافع عنه، أن يكونا خلقًا له؛ إذ لا ظفر بغاية إلا بهما، ولما عجبوا من إيحاء الله لرسوله، واصطفائه برسالته؛ قيل في درء شبهتهم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} يعني أهل الكتاب أو علماء الأحبار؛ ليعلموكم أنه لم يرسل للدعوة العامة ملك من أهل السماء. فالذكر: إما بمعنى الكتاب لما فيه من الذكر والعظة، كقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} [يس: 69]، أو بمعنى الحفظ لأخبار الأمم السالفة، وفي الآية دليل على وجوب الرجوع إلى العلماء فيما لا يعلم، واستدل بها بعضهم على جواز التقليد في الفروع للعاميِّ، وفي ذلك بحث طويل في إيقاظ الهمم لِلْفُلاَّنِي، فارجع إليه إن شئت، وأشار إلى طرف منه في فتح البيان.
وقوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} أي: بالآيات المبرهنة على صدقهم والكتب المرشدة إلى مصالح الخلق، والجار متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله، أي: أرسلناهم. أو بـ {ما أرسلنا}. أو بـ {نوحي} أو بـ {لا تعلمون}، على أن الشرط للتبكيت والإلزام: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} أي: القرآن المذكِّر والموقظ من سنة الغفلة: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي: مما أمروا ونهوا ووعدوا وأوعدوا: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين. أو يتأملون ما فيه من العبر فيحترزون عما أصاب الأولين، ولذا تأثره بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [45].
{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ} أي: المكرات السيئات التي قُصَّتْ عنهم. فهي صفة لمصدر محذوف أو مفعول لـ {مكروا} بتضمينه معنى {عملوا}: {أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}.
أي: من جهة لا يعلمون بها، كما لا يشعر الممكور بقصد الماكر.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [46- 48].
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي: سعيهم في المعايش واشتغالهم بها: {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} أي: لا يعجزون ربهم على أي: حال كانوا.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أي: توقع للهلاك ومخافة له، فإنه يكون أبلغ وأشد. أو ننقص في أبدانهم وأموالهم وثمارهم حتى يهلكوا. يقال: تخوفه: تنقصه وأخذ من أطرافه: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} أي: حيث يحلم عنكم ولا يعاجلكم بالعقوبة. ثم أخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه بانقياد سائر مخلوقاته: جمادات وحيوانات ومكلفين من الجن والإنس والملائكة له سبحانه، بقوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ} أي: جسم قائم له ظل: {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} أي: يرجع شيئًا فشيئًا: {عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ} أي: عن جانبي كل واحد منها، بُكْرَةً وَعَشِيًْا: {سُجَّدًا لِلّهِ} أي: منقادة له على حسب مشيئته في الامتداد والتقلص وغيرهما، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي: صاغرون، وغلب في جمعها من يعقل، فأتى بالواو. أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء. فهو إما تغليب أو استعارة، وكذا ضمير {هم} أيضًا؛ لأنه مخصوص بالعقلاء. فيجوز أن يعتبر ما ذكر فيه، ويجعل ما بعده جاريًا على المشاكلة.
لطيفة:
لابن الصائغ في سر توحيد اليمين وجمع الشمائل توجيه لطيف، وملخصه: أنه نظر إلى الغاية فيهما؛ لأن ظل الغداة يضمحل بحيث لا يبقى منه إلا اليسير، فكأنه في جهة واحدة، وهو في العشيِّ على العكس، لاستيلائه على جميع الجهات. فلحظت الغايتان. هذا من جهة المعنى.
وأما من جهة اللفظ فجمع ليطابق {سجدًا} المجاور له، كما أفرد الأول لمجاورة ضمير {ظلاله} وقدَّم الإفراد لأنه أصل أخف، و{عن اليمين} متعلق بـ {يَتَفَيَّأُ} أو حال. كذا في العناية.
ثم بيَّن سجود سائر المخلوقات سواء كانت لها ظلال أم لا، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [49].
{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ} أي: الملائكة، مع علو شأنهم: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أي: عن عبادته والسجود له.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [50].
{يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي: من الطاعات والتدبير، واستدل بقوله: {مِّن فَوْقِهِمْ} على ثبوت الفوقية والعلو له تعالى، وقد صنف في ذلك الحافظ الذهبي كتاب العلوّ وابن القيم كناب الجيوش الإسلامية وغيرهما، وأطنب فيها الحكيم ابن رشد في مناهج الدولة فليرجع إليها، وكلهم متفقون على أنه علوٌّ بلا تشبيه ولا تمثيل، وانفرد السلف بخطر التأويل والتعطيل. اهـ.